فصل: تفسير الآيات (24- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 26):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)}
ولما تقرر بما مضى أن الحق ما قاله الله أو فعله أو أذن فيه، وأن الباطل ما كان على غير أمره مما ينسب إلى الشيطان أو غيره من قول أو فعل، وأنه لا يصلح في الحكمة أن ينفي الحق ولا أن يبقى الباطل {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81]، {ويحق الله الحق بكلماته}، {ليحق الحق ويبطل الباطل} [الأنفال: 8]، وقص سبحانه كلام أوليائه الذي هو من كلامه، فهو أثبت الأشياء وأطيبها وأعظمها ثمرة، وكلام أعدائه الذي هو من كلام الشيطان، فهو أبطل الأشياء وأخبثها، قرب سبحانه ذلك بمثل يتعارفه المخاطبون فقال: {ألم تر} أي يا من لا يفهم عنا هذا المثل حق الفهم سواه! {كيف ضرب الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} أي سيره بحيث يعم نفعه؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول؛ ثم بينه بقوله: {كلمة طيبة} أي جمعت أنواع الكرم فليس فيها شيء من الخبث، وتلك الكلمة {كشجرة طيبة}.
ولما كانت لا تسر إلا بالثبات، قال: {أصلها ثابت} أي راسخ في الأرض آمن من الاجتثاث بالرياح ونحوها {وفرعها} عالٍ صاعد مهتز {في} جهة {السماء} لحسن منبتها وطيب عنصرها؛ فالآية من الاحتباك: ذكر {ثابت} أولاً دال على عال صاعد ثانياً، وذكر {السماء} ثانياً دال على الأرض أولاً.
ولما ذكر حالها، ذكر ثمرتها فقال: {تؤتي أكلها} أي ثمرتها بحسن أرضها ودوام ريّها {كل حين} على أحسن ما يكون من الإيتاء، لأن علوها منعها من عفونات الأرض وقاذورات الأبنية، فكانت ثمرتها نقية من شوائب الأدناس.
ولما كان الشيء لا يكمل إلا بكمال مربيه قال: {بإذن ربها} فهي بحيث لا يستجيز عاقل أن يتسبب في إفسادها، ومن سعى في ذلك منعه أهل العقول ولو وصلوا إلى بذل النفوس؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها [....]، تؤتي أكلها كل حين، قال ابن عمر رضي الله عنهما: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هي النخلة، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه! والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا».
ثم نبه سبحانه على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم، فقال: {ويضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال للناس} أي الذين يحتاجون إلى ذلك لاضطراب آرائهم، لأن في ضربها زيادة إفهام وتصوير للمعاني، لأن المعاني الصرفة إذا ذكر مناسبها من المحسوسات ارتسمت في الحس والخيال والوهم، وتصورت فتركت هذه القوى المنازعة فيها، فيحصل الفهم التام والوصول إلى المطلوب {لعلهم يتذكرون} أي ليكون حالهم حال من يرجى له غاية التذكر- بما أشار إليه الإظهار، فهذا مثل كلام الأولياء، فكلمتهم الطيبة كلمة التوحيد التي لا أطيب منها، وهي أصل كل سعادة راسخة في قلوبهم، معرقة في كل عرق منهم أوجب إعراقها أن بسقت فروعها التي هي الأعمال الدينية من أعمال القلوب والجوارح، فصارت كلما هزت اجتنى الهازّ ثمراتها التي لا نهاية لها، عالماً بأنها من فتح مولاه لا صنع له فيها بوجه، بل له سبحانه المن عليه في جميع ذلك وكما أن الشجر لا تتم إلا بعرق راسخ وأصل قائم وفروع عالية، فكذلك الإيمان لا يتم إلا بمعرفة القلب وقول اللسان وعمل الأركان، ثم أتبعه مثل حال الأعداء فقال: {ومثل كلمة خبيثة} أي عريقة في الخبث لا طيب فيها {كشجرة خبيثة}.
ولما كان من أنفع الأمور إعدامها والراحة من وجودها على أيّ حالة كانت، بنى للمفعول قوله: {اجتثت} أي استؤصلت بقلع جثتها من أصلها {من فوق الأرض} برأي كل من له رأي؛ ثم علل ذلك لقوله: {ما لها} وأعرق في النفي بقوله: {من قرار} أي عند من له أدنى لب، لأنه لا نفع لها بل وجودها ضار ولو بشغل الأرض، فكذلك الكلمة الخبيثة الباطلة لا بقاء لها أصلاً وإن علت وقتاً، لأن حجتها داحضة فجنودها منهزمة.

.تفسير الآيات (27- 29):

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}
فلما برز الكلام إلى هذين المثالين، حصل التعجب ممن يترك ممثول الأول ويفعل ممثول الثاني، فوقع التنبيه على أن ذلك بفعل القاهر، فقال تعالى- جواباً لمن كأنه قال: إن هذا الصريح الحق، ثم إنا نجد النفوس مائلة إلى الضلال، وطائشة في أرجاء المحال، فكيف لنا بالامتثال؟ {يثبت الله} أي الذي له الجلال والجمال {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أقل درجاتها {بالقول الثابت} أي الذي هو متابعة الدليل {في الحياة الدنيا} بمثل ما تقدم من محاولات أنبيائه {وفي الآخرة} ويهديهم عند كل سؤال إلى أحسن الأقوال حيث تطيش العقول وتدهش الأفكار لشدة الأهوال {ويضل الله} أي الذي له الأمر كله {الظالمين} أي العريقين في الظلم، ويزلزلهم لتقلبهم في الظلمات التي من شأن صاحبها الضلال والخبط، فيفعلون ما لا يرضاه عاقل، فالآية من الاحتباك: ذكر الثبات أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والإضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً {ويفعل الله} أي الذي له الأمر كله، فلا يسأل عما يفعل {ما يشاء} لأن الكل بحكمه وقضائه وهو القادر القاهر، فلا يتعجب من شيء، وفي هذا إرشاد إلى الإقبال عليه وإلقاء أزمّة الافتقار إليه؛ روى البخاري في التفسير وغيره ومسلم في أواخر صفة الجنة والنار عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله»، فذلك قوله تعالى: {يثبت الله} الآية.
ولما أخبر سبحانه أنه هو الفاعل وحده، أتبعه الدليل عليه إضلال الذين بدلوا الكلمة الطيبة من التوحيد بالإشراك وزلزلتهم واجتثاث كلمتهم فقال: {ألم تر} وأشار إلى بعدهم عن مقامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: {إلى الذين بدلوا} والتبديل: جعل الشيء مكان غيره {نعمت الله} أي المستجمع لصفات الكمال التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد، وما أورثهم من دين أبيهم إسماعيل عليه السلام ومن جميع النعم الدنيوية من أمن البلد وتيسير الرزق وغير ذلك، بأن جعلوا مكان شكرها {كفراً} وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء، وأبعدهم عن الخناء {وأحلوا قومهم} بذلك {دار البوار} أي الهلاك، مع ادعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل، روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة. والبوار: الهلاك الزائد، والإحلال: جعل الشيء في محل، فإن كان جوهراً فهو إحلال مجاورة. وإن كان عرضاً فهو إحلال مداخلة.
ولما أفاد أنها مهلكة، بينها بما يفهم أنها تلقاهم بالعبوسة كما كانوا يلقون أولياء الله من الرسل وغيرهم بذلك فقال: {جهنم} حال كونهم {يصلونها} أي يباشرون حرها مع انغماسهم فيها بانعطافها عليهم؛ ولما كان التقدير: فبئس الإحلال أحلوه أنفسهم وقومهم، عطف عليه قوله: {وبئس القرار} ذلك المحل الذي أحلوهم به.

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}
ولما كان هذا الفعل من لا عقل له، بينه بقوله: {وجعلوا لله} الذي يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا في رزقهم لان له الكمال كله {أنداداً} وقال: {ليضلوا} أي بأنفسهم على قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ويعموا غيرهم على قراءة الباقين {عن سبيله} لأنهم إن كانوا عقلاء فإنهم يعلمون أن هذا لازم لفعلهم فهم قاصدون له، وإلا فلا عقول لهم، لأنه لا يقدم على ما لا يعلم عاقبته إلا أبله، وهم يقولون: إنهم أبصر الناس قوباً، وأصفاهم عقولاً. وأنفذهم أفكاراً، وأمتنهم آراء، فمن ألزم منهم بطريق النجاة ومن أحذر منهم لطرق الهلاك؟ مع ما أوقعوا أنفسهم فيه من هذا الداء العضال.
ولما تقرر أنهم على الضد من جميع ما يدعونه فكانوا بذلك أهلاً للإعراض عنهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعرض أن يقول: فماذا أفعل بهم وقد أمرتني بإخراجهم إلى صراطك؟ أمره أن يدق أعناقهم بإخبارهم أن ما أضلهم من النعم إنما هو استدراج، فقال: {قل} أي تهديداً لهم فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا: {تمتعوا} وبالغوا في فعل البهائم مهما قدرتم، فإن ذلك ضائركم غير نافعكم {فإن مصيركم} أي صيرورتكم {إلى النار} بسبب تمتعكم على هذا الوجه.
ولما ذكر كفرهم وضلالهم عن السبيل وما أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن يقول لهم، وكان ذلك محركاً لنفس السامع إلى الوقوف على ما يقال لمن خلع الأنداد وكان أوثق عرى السبيل بعد الإيمان وأعمها الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، والنفقة الشاملة لوجوه البر، أمره تعالى أن يندب أولياءه إلى الإقبال إلى ما أعرض عنه أعداؤه، والإعراض عما أقبلوا بالتمتع عليه من ذلك، فقال {قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم فقال: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف.
ولما كان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن قول، فهو جالٍ لصدأ القلوب، وموجب لتهذيب النفوس، قال جازماً: {يقيموا الصلاة} التي هي زكاة القوة وصلة العبد بربه {وينفقوا} وخفف عنهم بقوله: {مما رزقناهم} أي بعظمتنا، فهو لنا دونهم، من أنواع النفقات المقيمة لشرائعه من الصدقات وغيرها، إتقاناً لما بينهم وبينه من الأسباب لينقذوا أنفسهم من النار، واقتصر على هاتين الخلتين لأنه لم يكن فرض في مكة غيرهما مع ما تقدم من فضلهما وعمومهما، ولعله سيق سياق الشرط تنبيهاً لهم على أن مجرد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقوى الأسباب فيجب عليهم ألا يتخلفوا عنه أصلاً؛ ثم أشار إلى المداومة على هاتين الخصلتين بقوله: {سراً وعلانية} ويجوز أن يراد بالسر النافلة، وبالعلانية الفرض؛ ثم رهب من تهاون في خدمته من اليوم الذي كان الإعراض عنه سبب الضلال، فقال مشيراً بالجار إلى قصر مدة أعمالهم: {من قبل أن يأتي يوم} أي عظيم جداً ليس هو كشيء من الأيام التي تعرفونها {إلا بيع فيه} لأسير بفداء {ولا خلال} أي مخالات وموادات يكون عنها شفاعة أو نصر، جمع خلة كقلة وقلال، أو هو مصدر، وذلك إشارة إلى أنه لا يكون شيء منهما سبباً لخلاص هالك.

.تفسير الآيات (32- 34):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}
ولما نفى جميع الأسباب النافعة في الدنيا في ذلك اليوم، كان كأنه قيل: فمن الحكم فيه حتى أنه يسير سيرة لا نعرفها؟ فقيل: {الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء؛ ثم أتبعه بصفات تدل على ما دعا إليه الرسل من وحدانيته وما أخبروا به من قدرته على كل شيء فلا يقدر أحد على مغالبته، وعلى المعاد وعلى غناه فلا يبايع، فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً، ثم عقبه بأدل الأمور على الإعادة مع ما فيه من عظيم المنة بأن به الحياة، فقال: {وأنزل من السماء ماء} ولما كان ذلك سبب النمو قال: {فأخرج به} أي بالماء الذي جعل منه كل شيء حي {من الثمرات} أي الشجرية وغيرهما {رزقاً لكم} بعد يبس الأرض وجفاف نباتها، وليس ذلك بدون إحياء الموتى؛ ثم أتبعه ما ادخره في الأرض من مياه البحار والأنهار، وذكر أعم ما يظهر من البحار فقال: {وسخر لكم الفلك} وعلل ذلك بقوله: {لتجري في البحر} ولما كان ذلك أمراً باهراً للعقل، بين عظمته بقوله: {بأمره} ولما كانت الأنهار من النعم الكبار بعد نعمة البحار، قال: {وسخر لكم الأنهار} ثم أتبعه ما جعله سبباً لكمال التصرف وإنضاج الثمار المسقيّة بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض فقال: {وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين} أي في سيرهما وإنارتهما وما ينشأ عنهما من الإصلاح بالطبخ والإنضاج في المعادن والنبات والحيوان؛ قال الرماني: والدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه؛ ثم ذكر تعالى ما ينشأ عن وجود الشمس وعدمها فقال: {وسخر لكم الّيل} أي الذي القمر آيته {والنهار} أي الذي الشمس آيته، يوجد كل منهما بعد تصرمه، ولو كان أحدهما سرمداً لاختل الحال بعدم النبات والحيوان كما هو كذلك حيث لا تغرب الشمس في الجنوب وحيث لا تطلع في الشمال؛ ثم عم بعد أن خص فقال: {وآتاكم}.
ولما كان الكمال لا يكون إلا في الجنة قال: {من كل ما سألتموه} أي ما أنتم محتاجون إليه فأنتم سائلوه بالقوة؛ ثم حقق وجه العظم بفرض ما يوجب العجز فقال: {وإن تعدوا} أيها الناس كلكم {نعمت الله} أي تروموا عد إنعام الملك الأعلى الذي له الكمال المطلق أو تأخذوا في عدّه، وعبر عنه بالنعمة إرشاداً إلى الاستدلال بالأثر على المؤثر {لا تحصوها} أي لا تحيطوا بها ولا تعرفوا عد الحصى المقابلة لها إن عددتموها بها كما كانت عادة العرب، أو لا تجدوا من الحصى ما يوفي بعددها، هذا في النعمة الواحدة فكيف بما زاد! فهذا شرح قوله أول السورة {الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} وقد ظهر به أنه لا يوجد شيء إلا هو ملك الله فضلاً عن أن يوجد شيء يداينه فضلاً عن شيء يماثله، فثبت أنه لا بيع ولا خلال يوم دينونة العباد، وتقريب العجز عن العد للإفهام أن السلامة من كل داء ذكره الأطباء في كتبهم- على كثرتها وطولها- نعمة على العبد، وذلك متعسر الحصر، وكل ما ذكروه صريحاً في جنب ما دخل تحت كلياتهم تلويحاً- قليل، فكيف بما لم يطلعهم الله عليه ولم يهدهم بوجه إليه، هذا في الجسم، وأما في العقل فالسلامة من كل عقد زائغ، ودين باطل وضلال مائل، وذلك لا يحصيه إلا خالق الفكر وفاطر الفطر سبحانه، ما أعزه وأعظم شأنه!.
ولما كان أكثر هذه السورة في بيان الكفرة وما لهم، وبيان أن أكثر الخلق هالك معرض عما يأتيه من نعمة الهداية على أيدي الرسل الدعاة إلى من له جميع النعم للحياة الطيبة بسعادة الدارين، ختم الآية ببيان ما اقتضى ذلك من صفات الإنسان فقال: {إن الإنسان} أي هذا النوع لما له من الأنس بنفسه، والنسيان لما ينفعه ويضره، والاضطراب بسبب ما يغمه ويسره {لظلوم كفار} أي بليغ الظلم والكفر حيث يهمل الشكر، ويتعداه إلى الكفر، وختم مثل ذلك في سورة النحل ب {غفور رحيم} لأن تلك سورة النعم، بدئت بالنهي عن استعجال العذاب، لأن الرحمة أسبق، ومن الرحمة إمهال الناس وإمتاعهم بالمنافع، فالتقدير إذن هناك: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} ولكن ربه لا يعاجله بالعقوبة لأنه غفور رحيم، وأما هذه السورة فبدئت بأن الناس في الظلمات.